بـقـلـم : بن بطوش
ما إن قرر العالم أن يتجاهل طاعون هذا الزمان و التعايش معه بلقاحات قد تكون المنجية، حتى تورط في حرب أخرى ضد الأسعار و الغلاء المفرط للمعيشة بسبب حرب فرضها "بوتين" على جيرانه الشرقيين من أوروبا، قتلت حتى الآن ضعف ما قتله الوباء اللعين، فأعادت تقسيم العالم إلى معسكرين؛ مؤيدون لها يعتبرونها عادلة، و معارضون يرون فيها سطوة و تجبر و حنين إلى زمن الإمبريالية الغاشمة...، كل هذا البؤس و الدماء و الخراب والتحول و الانجراف نحو المجهول، لم يرعب الصحف و الإعلام و المؤثرين في دولة مصر العربية الشقيقة، بقدر ما أرعبهم أن تمثال"أبو الهول" حارس الأهرامات، استيقظوا ليجدوه و قد أغمض عينيه... حيث ردد النشطاء في مصر أن لعنة الفراعنة تقول بأنه إذا أغمض "أبو الهول" عينيه فلأن هنالك أمر مريع و جلل سيحدث عما قريب للبشرية.
بعد ساعات من الفزع المصري، خرج أحد خبراء الآثار المصريين بشكل رسمي و قال أن الصورة التي التقطت لـ "أبو الهول"، قد عُبث بها باستخدام تكنولوجيا الإيحاء الرقمي في تطبيق "الفوتوشوب"، و أن العبث طال أنف التمثال الذي يتجاوز سنه الـ 7000 سنة، و الذي حوله جيش "نابوليون" إلى هدف للتدرب على التصويب بالبنادق، و طالب الخبير كل المصريين بالاطمئنان على مصير البشرية و عدم الفزع، لأن "أبو الهول" لا يزال مستيقظا و بعينين شاخصتين، يحرس أهرامات الجيزة و نيل المحروسة و باقي تراب "أم الدنيا".
فزع المصريين لا مبرر له حتى و إن كانت الرواية صحيحة، و الدليل على هذا أن حراس القضية الصحراوية على سبيل المثال أغلقوا أعينهم و قلوبهم و حواسهم و خفضوا سقف طموحاتهم و تخلوا عن معظم الأهداف و خلدوا للهزائم بنفس مطمئنة...، و لم يحصل أي شيء للبشرية، و لا أظن أن المصريين استيقظوا على أحداث مفجعة كالتي نستيقظ عليها و نفرح لها لأنها لم تهلكنا بعد، فلا توجد نكبة أعظم من اعترف أمريكا للرباط بسلطتها على الصحراء الغربية و تخلي ألمانيا عنا...، و لا أشد علينا من غدر إسبانيا و مباركة جل أوروبا للمحتل المغربي في مشروعه للحكم الذاتي...، و لا وجع يعلو على انقلاب كل إفريقيا و حلها لكل وفاق مع الحليف الجزائري، و انهيار قلاعنا في أمريكا اللاتينية، و لا أظن أن ثمة حزن أكبر من سماع مجازر الشيطان "يعني" الذي فتك بثلث الجيش الصحراوي لوحده، و سادت الفوضى في المخيمات و عبث تجار السموم بالأمن فيها، و تحول أفراد جهاز الشرطة إلى صائدي جوائز و منقبين عن الثروات...
كل هذا، و لا زال سيد البيت الأصفر يغمض عينيه، و نحن نظن أنه يرى ما نراه، و قد ضرب على سمعه و بصره و قلبه.... كم أغبط الشعب المصري على غيرته، بعدما حركته صورة مزيفة لتمثال من حجر لا يسمع و لا يرى، و كم يحزنني حال البيت الأصفر المرتجف، الذي فرغ قلبه من نخوة الغيرة على القضية، لم يعد حتى بمستوى غيرة المواطن المصري البسيط، لكن كل أملنا في الحليف الذي مهما أخطأ و تعثر، يضل ركنا قويا و صامدا أمام المد الدولي الذي تقوده الرباط بقوة؛ ذلك أن زيارة الرئيس الجزائري إلى تركيا أخطأ معظم المحللين في قراءتها، لعدم توفر المادة السياسية و لضعف الإعلام الجزائري، حيث كان تقييمها متسرعا للغاية و أن الجميع لم يبحثوا في المصادر و لم يدققوا في ما ينشر بالوكالات الإخبارية التركية و العربية، بل انشغلوا بالمشاهد الكوميدية للرئيس الجزائري التي جابت العالم، و هو يصارع الرياح و قد أحرجه مخاط أنفه الذي تناثر على بذلته و ملئ يده التي صافح بها الرئيس "أردوغان"...
و مثلما عودناك أيها القارئ الكريم، فقد أحضرنا لك تفاصيل جد دقيقة، و من مصادر مختلفة كي نفردها بين يديك و لتعلم يقينا أن الأمور ليست على خير في هذا الزمن المتحرك و المتقلب كرمال الصحراء...ننطلق من الوضع التركي الحالي و نضع له تقييما، كي نفهم أن الزيارة الجزائرية جاءت في ظرف غير جيد لعقد الاتفاقيات الاقتصادية، حيث تعيش تركيا بسبب الحصار الغربي و بسبب الحرب الأوكرانية أيضا، واحدة من أسوء أزماتها الاقتصادية على الإطلاق، لدرجة أن الليرة التركية انهارت أمام الدولار و الأورو و الروبل، و أصبحت قيمتها تعادل 15 ليرة مقابل دولارا أمريكيا واحدا، و هذا يعكس مستوى مشاكل الاقتصاد التركي، و الذي أدى إلى إنسحاب تركيا من الحرب الليبية بنسبة 90%، و بيعها أحد أهم مصانعها العسكرية المتخصص في صناعة الدبابات لصالح الرأسمال القطري، و تخليها على مصالحها في البحر المتوسط لصالح اليونان، و بحثها عن الصلح مع الإمارات العربية التي ضخت ملايير الدولارات بالمقابل في الاقتصاد التركي دون جدوى، و توثيق التعاون مع دولة إسرائيل و العربية السعودية و روسيا.
كما أن جميع الدول التي ترتبط بتركيا عبر التبادل الحر زادت من معاناة الاقتصاد التركي وأعادت المفاوضات و قلصت من ورادات الشركات التركية،... و هي نفس الخطوة أقدمت عليها الرباط... تمهل أخي القارئ، و ارتشف كأس الشاي المعتاد و أكمل القراءة، لأن الأمر ليس بالسهل...
نضيف إلى كل هذا أن الرئيس "طيب رجب أردوغان" خلال الزيارة الأخيرة إلى الجزائر تسبب في أزمة داخلية للقصر المرادية و أخرى خارجية بين الجزائر و فرنسا، بعدما قال أن الرئيس "تبون" قد شكى له جرائم فرنسا خلال الفترة الاستعمارية، و بالمقابل طالبه الرئيس التركي بتوفير الوثائق الرسمية لتلك التهم، من أجل إشعال العالم من حول "ماكرون"، الذي لم تعجبه شكوى"تبون" لـ "أردوغان" و أطلق بعدها سلسلة التصريحات المهينة للجزائريين و للدولة الجزائرية و للذاكرة الجزائرية، و لم يعتذر "أردوغان" عن تلك الحماقات و لم يقدم تفسيرات للجانب الجزائري و ساد البرود بين الدولتين لأسابيع طويلة، بل منح "أردوغان" الضوء الأخضر للإعلام التركي لدعم كلامه، و كأنه يدافع عن مقاطعة تركية تتحرش بها قوى غربية...، و هنا نتساءل ما الذي حدث ليهرع الرئيس الجزائري إلى أنقرة و يفتح أمام الشركات التركية السوق الجزائرية باتفاقيات وصفها الإعلام الفرنسي بالانتحارية للاقتصاد الجزائري...؟
زيارة الرئيس "تبون" صادفت استقبال مدريد لضيفها القطري، و هو الحدث الذي كشف لنا حسب الإعلام الإسباني و القطري و الروسي أن إسبانيا...، أخذت علما بأن وزير خارجية روسيا "لافروف" حذر الجزائر من رفع الإنتاج الغازي، و طالب قصر المرادية بتخفيضه إلى أدنى مستوياته، بل - و حسب المتداول- ضغط على الجزائر باستخدام صفقات التسليح من أجل الموافقة على قطع الغاز الجزائري في حالة طلبت موسكو ذلك لخنق أوروبا بسبب قضية انضمام السويد و فنلندا لحلف "الناتو" و إمكانية حصول حرب شاملة فوق الأراضي الشمالية لأوروبا، و أن الجزائر وافقت على طلب روسيا و أضافت طلبا صغيرا بتمكينها من تكنولوجيا "الدرون"، و هو الطلب الذي تجاهله "سرجي لافروف" و اعتبر أن مقابل الخدمة الجزائرية سيكون السماح للجزائر بتأخير أداء مقابل صفقات su-30 و دبابات t.90 و بعض المدرعات و الأسلحة الخفيفة، و أبلغ الطرف الجزائري بأن الحرب الدائرة في أوكرانيا جندت لها روسيا جميع المضادات و الطائرات المرتبطة بهذه التكنولوجيا، بمعنى أن روسيا تعاني من تأخر تكنولوجي في هذا الباب.
تعجيل الرئيس الجزائري بطي ملف الخلاف بشأن التصريحات الأردوغانية، و التنازل و القبول بالذهاب إلى أنقرة رغم الإحراج الذي يرتبط بالخطوة الجزائرية و رغم ترويج الإعلام الجزائري للدعوة التركية...، مرتبط بإدراك الجزائر بأنها خسرت معظم الشركاء الأوروبيين من جهة و أن زيارة "لافروف" و القبول بالمغامرة التي عرضها على الجزائر سيحول أوروبا إلى عدو مطلق لقصر المرادية، و ستبدأ المصالح الجزائرية في التضرر، لهذا فضلت الجزائر تعويض السلع الأوروبية بالسلع التركية، و جعل النظام التركي شريك فوق العادة، لكن بعد علم الأتراك بالأزمة الجزائرية التي تسببت فيها زيارة الوزير الروسي، أراد الأتراك استغلال الضعف الجزائري، و ترك الرئيس الجزائري لمدة 24 ساعة دون استقبال من الرئيس التركي و أرسلت له الشروط التركية و منحت له مهلة زمنية، و بعد قبول "تبون" بتلك الشروط، استقبله "أردوغان" بنصف ابتسامة، فيما كانت فرحة "تبون" لا توصف و كلنا شاهدنا تلك الفرحة الغامرة، بحيث ظل ملتصقا بذراع"أردوغان" و كأن هذا الأخير أنقذه من الموت المحقق.